نسبه صلى الله عليه وسلم وولادته ورضاعته
أما نسبه ، فهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، ويدعى شيبة الحمد، بن هاشم بن عبد مناف واسمه المغيرة، بن قصي واسمه زيداً، بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان فهذا القدر المتفق عليه من نسبه الشريف صلى الله عليه وسلم. أما ما فوق ذلك فمختلف فيه، لا يعتمد عليه في شيء.غير أن مما لا خلاف فيه أن عدنان من ولد إسماعيل نبي الله بن إبراهيم خليل الله عليهما الصلاة و السلام، وأن الله عز وجل قد اختاره من أزكى القبائل وأفضل البطون وأطهر الأصلاب، فما تسلل شيء من أدران الجاهلية إلى شيء من نسبه صلى الله عليه وسلم.
روی مسلم بسنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى هاشما من قريش، واصطفاني من بني هاشم " .
وأما ولادته صلى الله عليه وسلم فقد كانت في عام الفيل، أي العام الذي حاول فيه أبرهة الأشرم غزو وهدم الكعبة فرده الله عن ذلك بالآية الباهرة التي وصفها القرآن الكريم . وكانت على الأرجح يوم الإثنين لإثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول وقد ولد يتيما، فقد مات أبوه عبد الله وأمه حامل به لشهرين فحسب، فعني به جده عبد المطلب واسترضع له - على عادة العرب إذ ذاك - إمرأة من بني سعد بن بكر يقال لها حليمة بنت أبي ذؤيب
وقد أجمع رواة السيرة أن بادية بني سعد كانت تعاني إذ ذاك سنة مجدبة قد جف فيها الضرع ويبس الزرع، فما هو إلا أن صار محمد صلى الله عليه وسلم في منزل حليمة واستكان إلى حجره وثديها حتى عادت منازل حليمة من حول خبائها ممرعة خضراء، فكانت أغنامها تروح منها عائدة الى الدار شباعا ممتلئة الضرع . وقد حصلت أثناء وجوده صلى الله عليه وسلم في بادية بني سعد ( حادثة شق الصدر ) التي رواها مسلم، ثم أعيد بعدها إلى أمه وقد تم له من العمر خمس سنوات ولما أصبح له من العمر ست سنوات ماتت أمه آمنة، وما إن تحول الرسول إلى كفالة جده عبد المطلب حتى وافته هو الآخر منيته فمات وقد تم للنبي صلى الله عليه وسلم ثمان سنوات، فكفله عمه أبو طالب.
رحلته الأولى إلى الشام ثم كدحه في سبيل الرزق ولما تم له صلى الله عليه وسلم من العمر اثنتا عشرة سنة ، سافر عمه أبو طالب إلى الشام في ركب للتجارة ، فأخذه معه . ولما نزل الركب ( بصرى ) مروا على راهب هناك يقال له ( بحيرا ) وكان عليماً بالإنجيل خبيراً بشئون النصرانية وهناك أبصر بحيرا النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل يتأمله ويكلمه، ثم التفت إلى أبي طالب فقال له : "ما هذا الغلام منك ؟ فقال : ابني ( وكان أبو طالب يدعوه بابنه لشدة محبته له وشفقته عليه ) فقال له بحيرا: ما هو بابنك وما ينبغي أن يكون أبو هذا الغلام حياً . فقال : هو ابن أخي . قال : فما فعل أبوه ؟ قال : مات وأمه حبلى به . قال بحيرا : صدقت، فارجع به إلى بلده واحذر عليه يهود فوالله لئن رأوه هنا ليبلغنه شراً، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم". فأسرع به أبو طالب عائدا إلى مكة ثم أخذ رسول الله يستقبل فترة الشباب من عمره فبدأ بالسعي للرزق وراح يشتغل برعي الغنم، ولقد قال عليه الصلاة و السلام عن نفسه فيما بعد : ( كنت أرعى الغنم على قراريط لأهل مكة ) . وحفظه الله من كل ما قد ينحرف إليه الشباب من مظاهر اللهو و العبث قال عليه الصلاة و السلام فيما يرويه عن نفسه : (ما هممت بشيء مما كانوا في الجاهلية يعملونه غير مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبينه، ثم ما هممت به حتى أكرمني الله بالرسالة. قلت ليلة للغلام الذي يرعى معي بأعلى مكة: لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة أسمر بها كما يسمر الشباب، فقال: أفعل، فخرجت حتى إذا كنت عند أول دار بمكة سمعت عزفاً فقلت: ما هذا ؟ فقالوا عرس، فجلست أسمع، فضرب الله على أذني فنمت فما أيقظني إلا حر الشمس فعدت إلى صاحبي، فسألني فأخبرته، ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك ودخلت مكة فأصابني مثل أول ليلة، ثم ما هممت بعده بسوء . ) تجارته بمال خديجة وزواجه منها كانت خديجة - كما يروي ابن الأثير وابن هشام - امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم منه، فلما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق الحديث وعظم الأمانة وكرم الأخلاق، أرسلت إليه ليخرج في مالها الى الشام تاجراً وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره، ومعه غلامها ميسرة . وقد قبل محمد العرض فرحل إلى الشام عاملا في مالها ومعه ميسر ة فحالفه التوفيق في هذه الرحلة أكثر من غيرها، وعاد إلى خديجة بأرباح مضاعفة، فأدى لها ما عليه في أمانة تامة ونبل عظيم، ووجد ميسرة من خصائص النبی صلى الله عليه وسلم و عظيم أخلاقه ما ملأ قلبه دهشة له، وإعجاباً به فروى ذلك لخديجة فأعجبت خديجة بعظيم أمانته، و لعلها دهشت لما نالها من البركة بسببه، فعرضت نفسها عليه زوجة بواسطة صديقتها ( نفيسة بنت منية ) فوافق النبي عليه الصلاة و السلام، وكلم في ذلك أعمامه فخطبوها له من عمها عمرو بن أسد . وتزوجها عليه الصلاة و السلام وقد تم له من العمر خمسة وعشرون عاما ولها من العمر أربعون وقد كانت تزوجت خديجة قبل زواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم برجلين، الأول منهما عتيق بن عائذ التميمي ، ثم خلفه عليها أبو هالة التميمي واسمه هند بن زرارة. اشتراکه صلى الله عليه وسلم في بناء الكعبة الكعبة أول بيت بني على اسم الله ولعبادة الله وتوحيده فيه، بناها أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام بعد أن عانى من حرب الأصنام وهدم المعابد التي نصبت فيها .. بناها بوحي من الله تعالى وأمر له بذلك ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ) . وقد تعرضت الكعبة بعد ذلك للعوادي التي أوهت بنيانها وصدعت جدرانها، وكان من بين هذه العوادي سيل عرم جرف مكة قبل البعثة بسنوات قليلة، حيث زاد ذلك من تصدع جدرانها وضعف بنیانها، فلم تجد قريش بدا من إعادة تشييد الكعبة حرصاً على ما لهذا البناء من حرمة وقداسة خالدة ولقد كان احترام الكعبة وتعظيمها بقية مما ظل محفوظاً من شرعة إبراهيم عليه السلام بين العرب. ولقد شارك رسول اللہ صلى الله عليه وسلم قبل البعثة في بناء الكعبة وإعادة تشييدها مشاركة فعالة، فلقد كان ينقل الحجارة على كتفه ما بينها وبينه إلا إزاره وكان له من العمر إذ ذاك خمس وثلاثون سنة في الأصح. وروى البخاري في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: لما بنيت الكعبة، ذهب النبی صلى الله عليه وسلم والعباس ينقلان الحجارة ، فقال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم : إجعل إزارك على رقبتك، فخر إلى الأرض وطمحت عيناه إلى السماء فقال:أرني إزاري فشده عليه
ولقد كان له صلى الله عليه وسلم أثر كبير في حل المشكلة التي تسببت عن اختلاف القبائل حول من يستحق أن ينال شرف وضع الحجر الأسود في مكانه، فقد خضع جميعهم لاقتراحه الذي أبداه حلا للمشكلة، علماً منهم بأنه الأمين والمحبوب من الجميع
إختلاؤه في غار حراء
ولما أخذت سنه تدنو نحو الأربعين، نشأ لديه حب للعزلة بين الفترة و الأخرى، وحبب الله إليه الاختلاء في غار حراء - وحراء جبل يقع في الجانب الشمالي الغربي من مكة - فكان يخلو فيه ويتعبد فيه الليالي ذوات العدد، فتارة عشرة وتارة أكثر من ذلك إلى شهر، ثم يعود إلى بيته فلا يكاد يمكث فيه قليلا حتى يتزود من جديد لخلوة أخرى، ويعود الكرة إلى غار حراء، وهكذا إلى أن جاءه الوحي وهو في إحدى خلواته تلك.
بدء الوحي
روى الإمام البخاري عن السيدة عائشة تصف كيفية بدء الوحي وتقول:«أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح، ثم ، حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال له اقرأ، فقال ما أنا بقارئ، قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، فرجع بها رسول الله
صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده. فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال:زملوني، زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلا والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به
خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، وكان ابن عم خديجة، وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل في العبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي. فقالت له خديجة: يا ابن
عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس (أي جبريل أو الوحي)
الذي نزل على موسى يا ليتني فيها جذعا (شابا قويا) ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا. ثم لم يلبث ورقة أن توفي وفتر الوحي.واختلف في الزمن الذي فتر فيه الوحي فقيل ثلاث سنوات، وقيل أقل من ذلك، والراجح ما رواه البيهقي من أن المدة كانت ستة أشهر
ثم روى البخاري عن جابر بن عبد الله قال وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه:«بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصري، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه، فرجعت فقلت: زملوني، زملوني، فأنزل الله عز وجل: يا أيها المدير، قم فأنذر إلى قوله: والرجز فاهجر فحمي الوحي وتواتر»
مراحل الدعوة الإسلامية في حياة النبي عليه الصلاة و السلام
مرت الدعوة الإسلامية في حياته عليه الصلاة و السلام منذ بعثته إلى وفاته بأربع مراحل :
المرحلة الأولى : الدعوة سراً، واستمرت ثلاث سنوات المرحلة الثانية : الدعوة جهراً، وباللسان فقط، دون قتال واستمرت إلى الهجرة المرحلة الثالثة : الدعوة جهراً مع قتال المعتدين و البادئين بالقتال أو الشر، واستمرت هذه المرحلة إلى عام صلح الحديبية . المرحلة الرابعة : الدعوة جهراً مع قتال كل من وقف في سبيل الدعوة أو امتنع عن الدخول في الإسلام- بعد فترة الدعوة والإعلام - من المشركين أو الملاحدة أو الوثنيين وكانت هذه المرحلة هي التي استقر عليها أمر الشريعة الإسلامية، وحكم الجهاد في الإسلام .
الدعوة سرا
بدأ النبي يستجيب لأمر الله، فأخذ يدعو إلى عبادة الله وحده ونبذ عبادة الأصنام، ولكنه كان يدعو الى ذلك سراً حذراً من وقع المفاجأة على قريش التي كانت متعصبة لشركها ووثنيتها، فلم يكن عليه السلام يظهر الدعوة في المجالس العمومية لقريش، ولم يكن يدعو إلا من كانت تشده إليه صلة قرابة أو معرفة سابقة وكان في أوائل من دخل الإسلام من هؤلاء: خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وعلي بن أبي طالب وزيد بن حارثة مولاه عليه الصلاة و السلام ومتبناه ، وأبو بكر بن أبي قحافة، وعثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص ... و وغيرهم رضي الله عنهم جميعا فإن هؤلاء يلتقون بالنبي صلى الله عليه وسلم سراً ،وكان أحدهم إذا أراد ممارسة عبادة من العبادات ذهب إلى شعاب مكة يستخفى فيها عن أنظار قريش . ثم لما أربي الذين دخلوا في الإسلام على الثلاثين - ما بين رجل وامرأة - اختار لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم دار أحدهم ، وهو الأرقم بن أبي الأرقم، ليلتقي بهم فيها لحاجات الإرشاد التعليم، وكانت حصيلة الدعوة في هذه الفترة ما يقارب أربعين رجلا وامرأة دخلوا في الإسلام، عامتهم من الفقراء و الأرقاء وممن لا شأن له بين قريش الجهر بالدعوة قال ابن هشام : ثم دخل الناس في الإسلام أرسالا من النساء و الرجال حتى فشى ذكر الإسلام بمكة وتحدث به، فأمر الله رسوله أن يصدع بما جاءه من الحق، وأن يبادي الناس بأمره وأن يدعو إليه، وكان بين ما أخفى رسول الله أمره واستتر به إلى أن أمره الله تعالى بإظهار دينه ثلاث سنين من مبعثه . ثم قال الله له : ( فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ) وقال له : ( وأنذر عشيرتك الأقربين، واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين وقل إني أنا النذير المبين ) وحينئذ بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بتنفيذ أمر ربه، فاستجاب لقوله تعالى: ( فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ) بأن . صعد على الصفا فجعل ينادي : يا بنى فهر، يا بنى عدى، حتى اجتمعوا، فجعل الذي لم يستطع أن يخرج يرسل رسولا لينظر ما هو ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقی ؟ قالوا: ما جربنا عليك كذباً، قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبأ لك سائر اليوم .. ألهذا جمعتنا ؟ فنزل قوله تعالى ( تبت يدا أبي لهب وتب ) . ثم نزل الرسول صلى الله عليه وسلم، فاستجاب لقوله تعالى ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) بأن جمع من حوله جميع ذويه وأهل قرابته وعشيرته فقال: يا بني كعب بن لؤي: أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب :أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس : أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف:أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب : أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئاً، غير أن لكم رحماً سأبلها ببلاها ". وكان رد الفعل من قريش أمام جهره بالدعوة، أن أدبروا عنه وتنكروا لدعوته معتذرين بأنهم لا يستطيعون أن يتركوا الدين الذي ورثوه عن آبائهم وأصبح من تقاليد حياتهم، وحينئذ نبههم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ضرورة تحرير أفكارهم وعقولهم من عبودية الاتباع و التقليد، واستعمال العقل و المنطق، وأوضح لهم أن آلهتهم التي يعكفون على عبادتها لا تفيدهم أو تضرهم شيئا، وأن توارث آباءهم وأجدادهم لعبادتها ليس عذرا في اتباعهم بدون دافع إلا دافع التقليد، كما قال عز وجل في حقهم : ( وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول، قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا، أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون ) !؟ فلما عاب آلهتهم، وسفه أحلامهم، وجز اعتذارهم عن تمسكهم بعبادة الأصنام بأنها تقالید آباءهم وأجدادهم، إلى وصف آبائهم بعدم العقل، أعظموا الأمر وناكروه، وأجمعوا خلافه وعداوته، إلا من عصم الله تعالى منهم بالإسلام، وإلا عمه أبا طالب الذي حدب عليه ومنعه وقام دونه الايـذاء ثم إن قريشاً اشتدت في معاداتها لرسول اللہ صلى الله عليه وسلم و أصحابه ، أما رسول اللہ صلى الله عليه وسلم فقد لاقی من إيذائهم أنواعا كثيرة ،من ذلك ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال : بينا النبی صلى الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه ، ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال : أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله ؟ .ومنه ما روى عبد الله بن عمر قال : بينا النبي صلى الله عليه وسلم ساجد وحوله ناس من قريش، جاء عقبة بن أبي معيط بسلا جزور فقذفه على ظهر النبي يرفع رأسه، فجاءت فاطمة رضي الله عنها فأخذته من ظهره ودعت على من . ومنه ما كانوا يواجهونه به من فنون الهزء و الغمز و اللمز كلما مشى بينهم مر بهم في طرقاتهم أو نواديهم ومنه ما رواه الطبري وابن اسحاق أن بعضهم عمد إلى قبضة من التراب فنثرها على رأسه وهو يسير في بعض سكك مكة، وعاد إلى بيته و التراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته تغسل عنه التراب و هي تبكي ورسول الله يقول لها :" يا بنية لا تبكي فإن الله مانع أباك ". وأما أصحابه رضوان الله عليهم، فقد تجرع كل منهم ألواناً من العذاب، حتى مات منهم من مات تحت العذاب وعمي من عمي، ولم يثنهم ذلك عن دين الله شيئاً، ويطول البحث لو ذهبنا نسرد نماذج من العذاب الذي لاقاه كل منهم، ولكنا ننقل هنا ما رواه الإمام البخاري عن خباب ابن الأرث أنه قال : أتيت النبی صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت يا رسول الله : ألا تدعو الله لنا ؟ فقعد وهو محمر الوجه، فقال : لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء الى حضرموت لا يخاف إلا الله.
سياسة المفاوضات
جاء فيما يرويه ابن هشام عن ابن اسحاق أن عتبة بن ربيعة - وكان سيداً ذا بصيرة ورأي في قومه - قال في نادي قريش : يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه، وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا ؟ فقالوا بلى يا أبا الوليد : قم إليه فكلمه، فجاء عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من الشرف فى العشيرة والمكانة في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم فاسمع مني أعرض عليك أموراً
تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :قل يا أبا الوليد أسمع قال يا ابن أخي : إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذى يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفرغت يا أبا الوليد ؟ قال نعم .... قال فاسمع مني ، ثم قال : ) بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، حم ، تنزيل من الرحمن الرحيم، كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون، بشيرا ونذيراً ، فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون، وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون، قل إنما أنا بشر
مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه، وويل للمشركين )
ثم مضى رسول الله فى القراءة وعتبة يسمع حتى وصل الى قول الله تعالى ( فإن أعرضوا فقد أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ) فأمسك عتبة بفيه وناشده الرحم أن يكف عن القراءة، وذلك خوفا مما تضمنته الآية من تهديد ثم عاد عتبة إلى أصحابه فلما جلس بينهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد ؟ قال ورائي أني سمعت قولا ما سمعت بمثله قط، والله ماهو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة ، يا معشر قريش :أطيعوني وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم. قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم
وروى الطبري وابن كثير وغيرهما أن نفرا من المشركين فيهم الوليد بن المغيرة و العاص بن وائل جاؤوا فعرضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطوه من المال حتى يكون أغناهم وأن يزوجوه أجمل أبكارهم على أن يترك شتم آلهتهم وتسفيه عاداتهم، فلما رفض إلا الدعوة إلى الحق الذي بعث به، قالوا : فتعبد آلهتنا يوما ونعبد إلهك يوماً فرفض ذلك أيضا ونزل تعليقا على ذلك قوله تعالى : ( قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ، ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولى دين ) .
ثم أن أشراف قريش عادوا فكرروا المحاولة التي قام بها عتبة بن ربيعة فذهبوا إليه مجتمعين، وعرضوا عليه الزعامة و المال، وعرضوا عليه الطب إن كان هذا الذي يأتيه رئيا من الجن، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما بي ما تقولون ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ، ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل علي كتاباً، وأمرني أن أكون بشيراً ونذيراً ، فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردّوه على، أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم ". فقالوا له : فإن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضناه عليك، فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلداً ولا أقل ماءاً ولا أشد عيشاً منا ، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك
به، فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا وليفجر لنا أنهاراً كأنهار الشام و العراق وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب، فإنه
كان شيخ صدق فنسألهم عما تقول : أحق هو أم باطل، وليجعل لك جناناً وقصوراً وكنوزاً من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغي .... فإن صنعت ما سألناك صدقناك وعرفنا منزلتك من الله وأنه بعثك رسو لاً كما تقول. فقال لهم : ما أنا بفاعل وما أنا بالذي يسأل ربه هذا.
ثم إنهم قالوا له - بعد طول كلام وخصام - : إنا قد بلغنا أنه إنما يعلمك هذا، رجل في اليمامة يقال له : الرحمن، وإنّا والله لا نؤمن بالرحمن أبداً، فقد أعذرنا إليك يا محمد، وإنّا والله لا نتركك وما بلغت منا حتى نهلكك أو تهلكنا . ثم قاموا وانصرفوا عنه
الحصار الإقتصادي
ورد بأسانيد مختلفة عن موسى بن عقبة وعن ابن اسحاق وعن غيرهما، أن كفار قريش أجمعوا أمرهم على قتل رسول الله ، وكلموا في ذلك بني هاشم وبني المطلب، ولكنهم أبوا تسليمه صلى الله عليه وسلم إليهم فلما عجزت قريش عن قتله صلى الله عليه وسلم أجمعوا على منابذته و منابذة من معه من المسلمين ومن يحميه من بني هاشم وبني المطلب، فكتبوا بذلك كتاباً تعاقدوا فيه
على ألا يناكحوهم ولا يبايعوهم ولا يدعوا سبباً من أسباب الرزق يصل إليهم، ولا يقبلوا منهم صلحاً ولا تأخذهم بهم رأفة ، حتى يسلم بنو المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم للقتل، وعلقوا الكتاب في جوف الكعبة . والتزم كفار قريش بهذا الكتاب ثلاث سنوات، بدءاً من المحرم سنة سبع من البعثة إلى السنة العاشرة منها ، وقيل بل استمر ذلك سنتين فقط
ورواية موسى بن عقبة تدل على أن ذلك كان قبل أمر الرسول أصحابه بالهجرة إلى الحبشة، وإنما أمرهم بها أثناء هذا الحصار. أما رواية ابن اسحاق فتدل على أن كتابة الصحيفة كانت بعد هجرة أصحابه صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة وبعد إسلام عمر وصر بنو هاشم وبنو المطلب ومن معهم من المسلمين ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعب بني المطلب، وإنما مكة شعاب متفرقة، واجتمع فيه من بني هاشم وبني المطلب المسلمون و الكافرون، أما المسلمون فتديناً وأما الكافرون فحمية، إلا ما كان من أبي لهب، عبد العزى بن عبد المطلب، فإنه خرج إلى قريش فظاهر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
فجهد النبي صلى الله عليه وسلم و المسلمون جهداً شديداً في هذه الأعوام الثلاثة واشتد عليهم البلاء، وفي الصحيح أنهم جهدوا حتى كانوا يأكلون الخبط وورق الشجر . وذكر السهيلي أنهم كانوا إذا قدمت العير مكة، يأتي أحد أصحاب رسول الله إلى السوق ليشتري شيئا من الطعام يقتاته لأهله، فيقوم أبو لهب فيقول : يا معشر التجار غالوا على أصحاب محمد حتى لا يدركوا شيئاً معكم، فيزيدون عليهم في السلعة قيمتها أضعافا ،حتى يرجع إلى أطفاله يتضاغون من الجوع وليس في يده شيء يعللهم به فلما كان على رأس ثلاث سنين من بدء هذا الحصار، تلاوم قوم من بني قصي، فأجمعوا أمرهم على نقض ما تعاهدوا عليه، وأرسل الله على صحيفتهم التي كتب فيها نص المعاهدة الأرضة ، فأتت على معظم ما فيها من ميثاق وعهد، ولم يسلم من ذلك إلا الكلمات التي فيها ذكر الله عز وجل وقد أخبر بذلك رسول صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب ، فقال له أبو طالب : أربك أخبرك بذلك ؟ قال: نعم، فمضى في عصابة من قومه إلى قريش، فطلب منهم أن يؤتوه بالصحيفة موهماً إياهم أنه نازل عند شروطهم فجاؤوا بها وهي مطوية، فقال أبو طالب : إن ابن أخي قد أخبرني ولم يكذبني قط، أن الله تعالى قد سلط على صحيفتكم التي كتبتم الأرضة فأتت على كل ما كان فيها من جور وقطيعة رحم ، فإن كان الحديث كما يقول فأفيقوا وارجعوا عن سوء رأيكم، فو الله لا نسلمه حتى نموت من عند آخرنا، وإن كان الذي يقول باطلا دفعنا إليكم صاحبنا ففعلتم به ما تشاؤون فقالوا : قد رضينا بالذي تقول . ففتحوا الصحيفة فوجدوا الأمر كما أخبر الصادق المصدوق ، فقالوا: هذا سحر ابن أخيك ! وزادهم : عليه ذلك بغياً وعدواناً
ثم إن خمسة من رؤساء المشركين من قريش، مشوا في نقض الصحيفة، وإنهاء هذا الحصار وهم : هشام بن عمرو بن الحارث وزهير ابن أمية والمطعم بن عدي وأبو البختري بن هشام وزمعة ابن الأسود . وكان أول من سعى إلى نقضها بصريح الدعوة زهير بن أمية ،أقبل على الناس عند الكعبة فقال : يا أهل مكة : أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم و المطلب هلكي لا يباعون ولا يبتاع منهم .. ؟ والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة، ثم قال بقية الخمسة نحواً من هذا الكلام، ثم قام المطعم بن عدي إلى الصحيفة فمزقها، ثم انطلق هؤلاء الخمسة ومعهم جماعة ، إلى بني هاشم وبني المطلب ومن معهم من المسلمين فأمروهم بالخروج الى مساكنهم.
أول هجرة في الإسلام
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى ما يصيب أصحابه من البلاء وأنه لا يقدر على أن يحميهم ويمنعهم مما هم فيه، قال لهم لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإنّ بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه» فخرج عند ذلك المسلمون إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفرارا إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة في الإسلام. وكان في مقدمة المهاجرين: عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو حذيفة وزوجته، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير وعبد الرحمن بن عوف ... حتى اجتمع في أرض الحبشة من أصحابه صلى الله عليه وسلم بضعة وثمانون رجلا (1) فلما رأت قريش ذلك، أرسلت إلى النجاشي عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص (ولم يكن قد أسلم (بعد بهدايا مختلفة كثيرة، إليه وإلى حاشيته وبطارقته، رجاء أن يرفض قبول هؤلاء المسلمين في جواره ويسلمهم مرة أخرى إلى أعدائهم. فلما كلّما النجاشي في ذلك وكانا قد كلّما من قبله بطارقته وقدّما إليهم ما جاءا به من الهدايا-
رفض النجاشي أن يسلم أحدا من المسلمين إليهما حتى يكلمهم في شأن دينهم الجديد هذا. فجيء بهم إليه، ورسولا قريش عنده، فقال لهم ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا به في ديني ولا في دين أحد من الملل؟ . فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب، فقال: أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم، ونهانا عن الفواحش.. فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا أن لا نظلم عندك. فسأله النجاشي أن يتلو عليه شيئا مما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الله. فقرأ عليه جعفر صدرا من سورة مريم، فبكى النجاشي حتى اخضلّت لحيته، ثم قال لهم: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة. ثم التفت إلى رسولي قریش قائلا: انطلقا فلا والله لا أسلمهم إليكما، ولا يكادون . ثم إنهما عادا فقالا للنجاشي: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولا عظيما، فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون . فأرسل إليهم، في ذلك، فقال جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يقول: «هو عبد الله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول» فضرب النجاشي بيده إلى الأرض فأخذ منها عودا ، ثم قال: «والله ما عدا عيسى بن مريم مما قلت هذا العود» .
ثم ردّ إليهما هداياهما ، وزاد استمساكه بالمسلمين الذين استجاروا به، وعاد الرسل إلى قريش خائبين. وبعد فترة من الزمن بلغهم إسلام أهل مكة، فرجعوا لما بلغهم ذلك حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن ما قد سمعوه من إسلام أهل مكة باطل، فلم يدخل أحد منهم إلا بجوار أو مستخفيا. وكان جميعهم ثلاثة وثلاثين رجلا. وكان من بين من دخل بجوار عثمان بن مظعون دخل بجوار الوليد بن المغيرة، وأبو سلمة دخل بجوار أبي طالب.
هجرة الرسول إلى الطائف
ولما نالت قريش من النبي صلى الله عليه وسلم ما وصفناه من الأذى، خرج إلى الطائف يلتمس النصرة من ثقيف ويرجو أن يقبلوا منه ما جاءهم به من عند الله عز وجل. ولما انتهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ ،ساداته، فجلس إليهم ودعاهم إلى الله وكلمهم بما جاءهم من أجله، فردوا عليه ردا منكرا، وفاجأوه بما لم يكن يتوقع من الغلظة القول. فقام رسول الله من عندهم وهو يرجوهم أن يكتموا خبر مقدمه إليهم عن قريش إذن، فلم يجيبوه إلى ذلك أيضا. ثم أغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به، وجعلوا يرمونه بالحجارة حتى أن رجلي رسول الله صلى الله عليه وسلم لتدميان، وزيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى لقد شج في رأسه عدة شجاج ، حتى وصل رسول الله إلى بستان لعتبة بن ربيعة، فرجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فعمد عليه الصلاة والسلام، وقد أنهكه التعب والجراح، إلى ظل شجرة عنب فجلس فيه وابنا ربيعة ينظران إليه. فلما اطمأنّ النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الظل، رفع رأسه يدعو بهذا الدعاء: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، من أن ينزل بي غضبك أو يحلّ عليّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك . ثم إن ابني ربيعة - صاحبي البستان تحركت الشفقة في قلبيهما، فدعوا غلاما نصرانيا لهما يقال له (عداس) فأرسلا إليه قطفا من العنب في طبق، فلما وضع عداس العنب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له كل، مد الرسول يده قائلا: بسم الله. ثم أكل، فقال عداس متعجبا: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال له الرسول ومن أي البلاد أنت؟ وما دينك؟ قال: نصراني، وأنا رجل من أهل نينوى (قرية) بالموصل) ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:من قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟ فقال عداس وما يدريك ما يونس بن متي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أخي، كان نبيا وأنا نبي.. فأكبّ عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويديه وقدميه»
قال ابن إسحاق: «ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من الطائف راجعا إلى مكة، حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي، فمرّ به النفر من الجن الذين ذكرهم الله تبارك وتعالى، فاستمعوا له، فلما فرغ من صلاته ولّوا إلى قومهم منذرين قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا.وقد قص الله خبرهم عليه صلى الله عليه وسلم في قوله : ( وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَرٍاً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ إِلَى قوله: وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيم [الأحقاف / 29] ، وقوله: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفْرٌ مِنَ الْجِنِّ.. الآيات الجن / 1] ثم عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم - ومعه زيد بن حارثة - يريد دخول مكة.
فقال له زید كيف تدخل عليهم يا رسول الله وهم أخرجوك؟ فقال: " يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه" . ثم أرسل رجلا من خزاعة إلى مطعم بن عدي يخبره أنه داخل مكة في جواره، فاستجاب مطعم لذلك. وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة»
0 التعليقات:
إرسال تعليق